صلاة عربية بلا إمام
موقع طلائع المجد | أقلامٌ حرّة | 17
| صلاح الدكاك
بين 1917م عام (بلفور) و1948م عام النكبة الفلسطينية، كانت دولة اليمن المتوكلية، الدولة الوحيدة الوطنية والمستقلة في محيط عربي وإسلامي يرزح جل بلدانه وحكوماته تحت سطوة الاحتلال الأوروبي المباشر، وإذا جاز الحديث عن مقاربة عربية وإسلامية لمجريات نشوء وتطور القضية الفلسطينية، منذ الهجرات اليهودية الأولى (وقرار بلفور)، حتى طفور دولة الكيان الصهيوني من عدم التاريخ، فإن المقاربة اليتيمة التي يعتد بها في هذا الخصوص، هي المقاربة اليمنية لا غير.
بطفرة سليمة وفطنة نافذة وعقائدية ثورية وتحررية، أمكن لبطل التحرير الوطني الإمام يحيى حميد الدين، استشراف خطر النفوذ الاستعماري الأجنبي في المنطقة العربية والإسلامية بالعموم، وعلى الأراضي المقدسة بالخصوص وفلسطين في بؤرتها، لذا، اتسمت السياسة الخارجية لدولة اليمن المتوكلية، منذ استقلالها في العام 1918، بفرط التوجس في نوايا الغرب الاستعماري حد القطيعة معه، والإشاحة الكاملة حتى عن (أياديه البيضاء) الممدودة لليمن حينها، تحت مسميات إنسانية شتى، إلى ذلك، استمر الإمام يحيى يبرق لنظرائه من ملوك وزعماء عرب ومسلمين، محذراً من سرطان الهجرات اليهودية الاستيطانية الأولى في فلسطين، والنزوع لتهويد مقدساتها، حاثاً إياهم على مواجهة نُذر النكبة قبل وقوعها، عبر إنشاء آليات مشتركة عملية وموحدة للجهود والمواقف إزاء فلسطين.
على النقيض للشريف حسين وأبنائه الذين كانوا بمثابة حصان طروادة، نفذ من خلاله الاستعمار البريطاني باسم (ثورة عربية كبرى)، ليبسط سيطرته على تركة (الرجل المريض) والآفل، قارع الإمام يحيى سلطات الاحتلال العثماني في اليمن، وانتزع صك الاستقلال بعصامية ثورية استعصى على أحابيل الاستعمار البريطاني في جنوب اليمن المحتل الإيقاع بها، وظلت دولة الإمامة تناصب بريطانيا العداء، بوصفها مصدر الشرور في المنطقة بالعموم، وفي فلسطين تحديداً، وظل الإمام يحيى متمسكاً بوحدة اليمن الطبيعية والتاريخية، رافضاً بشدة، الإقرار بوثيقة التقسيم الشطري الموقعة بين سلطات الاحتلالين العثماني والبريطاني في العام 1915م.
لا غرابة ـ والأمر كذلك ـ أن يقضي الإمام يحيى نحبه في عملية اغتيال دبَّرتها مطابخ المخابرات البريطانية بأيادٍ محلية (إخوانية)، في فبراير في العام 1948. أي قبل أقل من ثلاثة أشهر من تاريخ إشهار دولة الكيان الصهيوني الغاصب في مايو من ذات العام.
إن مركزية القضية الفلسطينية في رؤية دولة الإمامة اليمنية المبكرة، أنبنت حينها على شمولية النظرة للخطر الاستعماري الغربي على عموم المنطقة العربية والإسلامية، غير أن الرؤية القُطرية للصراع، والتي تبلورت لاحقاً في مصر الثورة الناصرية، وشاعت في أدبيات حركات التحرر العربي المتصلة بمصر، هي رؤية مستعلية وداحضة لسياق المواقف والرؤى السابقة لنشوء الجمهوريات، وتقدم نفسها بوصفها رؤية البدء. ففلسطين القضية في هذه الرؤية هي لدة ثورة يوليو وزعيمها عبدالناصر وفي سوريا هي لدة البواريد المهربة من دمشق إلى ثورة (عز الدين القسام السوري)،.. بينما يجري شطب إسهامات الدولة المتوكلية اليمنية المائزة والمبكرة على هذا المستوى من تاريخ الصراع مع المشروع الصهيوني في مهد ظهوره إلى الوجود!
لعل استعصاء اليمن المتوكلية على الاستعمار الأوروبي وانتزاعها استقلالها عن العثماني بعصامية وطهارة ترابها من رجس الاحتلال الأجنبي هو السُّبَّة التي أزاحتها خارج المدونات الرسمية العربية الحديثة للأنظمة التحررية ذات النزعة العلمانية القومية واليسارية.
إنهم يباهوننا بوقوع بلدانهم مطايا للأوروبيين ونجاة بلدنا بإباء شعبها، في الوقت الذي يؤرخون فيه لوجودهم بتواريخ استقلالهم عن أوروبا الاستعمارية كحركات تحررية انتهت بها أدبياتها الاستعلائية المتغربة في حضن الاستعمار اليوم دون أن تستشعر نخبها تناقضاً مخجلاً في هذه السيرورة ونشاز المآل.
التعليقات مغلقة.